كان الرشيد يستكثر منهن في قصوره حتى تجاوز عددهن عن اربعة الاف جارية , كانت ضياء وخنث وسحر افضلهن عنده ولسان حاله
ملك الثلاث الأنسات عناني وحللن من قلبي بكل مكاني
مالي تطاوعني البرية كلها واطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك الا ان سلطان الهوى وبه عززن اعز من سلطاني
كان بعض الجواري يحسن نظم الغزل المثير , يكتبنه على عصائبهن وثيابهن ومناديلهن
منها هذا البيت : اتهون الحياة بلا جنون ؟ فكفوا عن ملاحقة العيون
وفي اخبار الخليفة المهدي ان جاريته اهدت اليه تفاحة بعد ان نقشت عليها
هدية مني الى المهدي تفاحة تقطف من خدي
محمرة مصفرة طيبة كأنها من جنة الخلد
كما روي عن الخليفة المتوكل انه رأى جارية وقد نقشت اسمه على خدها فأعجبه ذلك وطلب ان ينشد الحدث نظما ملحنا فأنطلقت شاعرة القصر عريب تغني بصحبة الأوتار
لئن اودعت خطا من المسك خدها فقد اودعت قلبي من الوجد اسطرا
كن بعض الجواري يتقن نظم الشعر وفن الغناء او الرقص معا مما كان يرفع من مستواهن الفني و يزيد من انوثتهن سحرا واغراء , فيغدون فتنة من فتن العصر كالجارية عريب مطربة المتوكل والجارية دنانير مطربة البرامكة .
كان العرب يستعذبون سماع قصائد ابن الجهم , ينشدونها في مجالس افراحهم منها
الورد يضحك والأوتار تصطخب والناى يندب اشجانا وينتحب
والراح تعرض في نور الربيع كما تجلى العروس عليها الدر والذهب
كانت اعياد المسلمين العرب تشمل عيد الفطر وعيد الأضحى المبارك فكانوا يستهلون الصباح الأول منه بصلاة العيد ثم يتبادلون التهاني و الزيارات العائلية او يلتقون في الساحات العامة يمرحون او يجتمعون حول ابي الشمقمق في بغداد الذي كان يضحكهم بنوادره او يخرجون الى احضان الطبيعة لشم النسيم , فمنهم من يتهادى على صفحة مياه دجلة في زوارق جميلة يضجون بالغناء مسرورين ومنهم من يختلي بين الخمائل تحت ظلال الشجرعلى طريقتهم الخاصة وفي هذا السياق ينشد الشاعر البحتري مزهوا
اشرب على زهر الرياض يشوبه زهر الخدود وزهرة الصهباء
من قدح ينسي الهموم ويبعث الشوق الذي قد ضل في الأحشاء
اما اعياد المسلمين الفرس فكانت المهرجان و الربيع , لكن الأخير – نوروز – كان اكبر اعيادهم , يخرجون فيه مع بزوغ الشمس الى المروج الخضراء بملابسهم الزاهية محتفلين مغتبطين , يتبادلون التهاني والهدايا والتهادي بالورد , يقضون النهار بطوله في احضان الطبيعة يمرحون ويستمتعون بأريج زهبرات الفصل البهيج .
اما الفرس المجوس فكان من عادتهم ان يحتفلوا بعيدهم بعد غروب الشمس , حيث كانوا يقضون ساعات الليل يرقصون حول لهيب النيران المشتعلة وهم فرحين يعلون اصواتهم بالغناء منشدين
- قد قابلتنا الكوؤس ودابرتنا النحوس واليوم هرمزد روز قد عظمته المجوس
وهرمزد هذا هو اسم اله النور على حد زعمهم - .
اما اعياد النصارى فكانت كثيرة لكن اهمها كانت عيد الميلاد و الفصح و الشجرة وكانوا يزينون روؤسهم بأكاليل الورد وفي ايدهم الخوص والزيتون كما كانوا يحيطون مجالسهم بالزهور والرياحين ودفئ الشموع . وكان احتفالهم بعيد الفصح متميزا , وعندهم ان النبي الله عيسى عرج الى السماء في مثل هذا اليوم بعد صلبه بثلاثة ايام . كان اكثر مناطق العراق احتفالية هي الدير الأعلى في الموصل ودير سمالو في شرق بغداد وكان عشاق الطرب يسافرون اليها اما عن طريق الدواب او عن طريق نهر دجلة وكان المحتفلون يتبارون في زيهم و زينتهم , يشربون الأنخاب و يضجون في اغاني راقصة صاخبة حتى الصباح , و يصف الشاعر عبد الملك هذه المشاهد قوله ,
ورب يوم في سمالو تم لي فيه السرور وغيبت احزانه
فتلاعبت بعقولنا نشواته وتوقدت بخدودنا نيرانه
حتى حسبت ان البساط سفينة والدير ترقص حولنا حيطانه
كانت البساتين في ضواحي المدن تحتضن الحانات التي كانت تعج بالجواري والغلمان صباح مساء , تخفق لأغانيها المعازف والطنابير والدفوف وتهيئ لروادها اللهو المباح و غير المباح , ومن حولهم الشياطين , يكثر فيها حديث الفسق والصبوة و ثرثرة المجوس و الزنادقة الذين كانوا يفتحون الباب على مصراعيه للتهجم على العرب والنيل من تاريخهم و ثقافتهم بل والدس على الأسلام نفسه متشامخين بحضارتهم القديمة , وكان البرامكة دوما يذكون هذه التحرشات .
وفي هذا الجو المتوتر كان الدور التاريخي للثقافة العربية المرتبط بالمضمون الحضاري الأسلامي الديني والوطني والعرقي يتعرض لخطر فقدان الهوية من الجذور .
فقد شكلت هذه التصورات الخاطئة ارضية خصبة في اشتداد نزعة الشعوبية التي تتعارض مع الأسلام الذي اعلن منذ اليوم الأول انه لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى , اذ ليست العروبة ولا العجمة ميزة في ذاتها تعلي من شأن صاحبها - ...... كان الفرس قبل الأسلام مجوسا , والمجوسيه منحدرة من الدين الزرادشتي الذي ظهر 700 سنه قبل الميلاد , يعتقد بوجود الهين هما – اهورامزدا – منبع النور واصل الخير في العالم و – اهرمن – وهو رمز الظلمة ومبدأ الشر في الوجود , وعندهم النار شعار الطهر , فهم يقدسونها لكنهم لا يعبدونها , ثم تليها المانوئية وهي الفكر المجوسي الثاني الذي ظهر 300 سنة بعد الميلاد . تحرم ذبح الحيوان لكنها تبيح الزواج من المحارم وعقيدتهم هي مزيج من الزرادشتية والنصرانية والبوذية ولها طقوس عبادية خاصة بها. واما الفكر المجوسي الثالث فهي المزدكية , اخطر من سابقاتها لأنها تضيف الى العقيدة المجوسية نزعة الأباحية . وقد عمل الداعية الخليع شلمخان من هذه المحرمات سننا وشرائع........ هكذا كانت هذه المعتقدات الشاذة وبالا على الأسلام , والغريب في الأمر ان المسلمين لم ينتبهوا الى حقيقة المجوسية في بادئ الأمر و اعتبروها ضربا من التعاليم السماوية . و نظروا اليها بأحترام , لذلك ظلت حية قوية حتى ادرك الخليفة المهدي العباسي ابعاد كفرها فأنقلب يفتك بهم , وعلى اثر ذلك اقبل الكثير من المجوس واعلنوا اسلامهم , لكن هذا الأسلام كان في لسانهم لا في قلوبهم .
كتر الرقيق في العصر العباسي كثرة مفرطة . فقد انتشرت تجارته الى حد كان سوق النخاسة في بغداد يحمل اسمه . فيه مواصفات الجنسين , من كل دين ولغة ولون وعنصر تعرض تحت اعين الرجال .
كان الناس في المجتمع العباسي يعشقون الغناء , فقد اقترنت موسيقى الطرب لديهم برقة عواطفهم وخلجات نفوسهم , حتى غدت نعيمهم المفضل , تثير فيهم البهجة والسرور الى حد كانوا يستقبلون عذوبة الألحان بالدموع . ولهذا كثرت مجالس الأنس والسمر لكن تفشى فيها الغزل الماجن , كان سببا لأفساد الشباب , هذا الغزل الذي لا تصان فيه كرامة المرأة و الرجل معا , وكان شعراء الخمرة يغذون حفلاتهم بأشعار مثيرة من امثال مسلم بن وليد الذي يقول
ان كنت تسقيني غير الراح فأسقيني كأسا الذ بها من فيك تشفيني
عيناك راحي وريحاني حديثك لي ولون خدك لون الورد يكفيني
وابن بردي يقول : يا ساقيا خصني بما تهواه لا تمزج اقداحي رعاك الله
دعها صرفا فأنني امزجها اذ اشربها بذكر من اهواه
ويقول مطيع بن الياس: اخلع عذارك في الهوى – واشرب معتقة الدنان
لا يلهينك غير ما تهوى – فأن العمر فان
والشاعر البصير بشار يقول : حوراء ان نظرت اليك سقتك بالعينين خمرا
وابو تمام في وصف الخمرة : جهنمية الأوصاف الا انهم وصفوها بجوهر الأشياء
اما ابو نؤاس فيقول :
الا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا ان امكن الجهر
وبح بأسم من تهوى ودعني عن الكنى فلا خير في اللذات من دونها ستر
واخيرا يمضي ويدعوا في خمرياته الى العدول عن وصف الأطلال ويقول
لا تبك ليلى ولا تطرب الى هند واشرب على الورد من حمراء كالورد
كأسا اذا انحدرت في حلق شاربها اجدته حمرتها في العين والخد
فالخمر ياقوته والكأس لؤ لؤة في كف جارية ممشوقة القد
تسقيك من يدها خمرا ومن فمها خمرا فما لك من سكرين من بد
ورث المجتمع العباسي من الفرس كل ما كان عندهم من ادوات لهوومجون , فكان عشاق الخمرة يعبون منها ما يشاؤون , حتى اصبح الأدمان عليها ظاهرة عامة , ومما ساعد على انتشارها اجتهاد زمرة من الفقهاء على تجويز بعض انواعها , رغم وجود نص النهي عنها في القرأن الكريم .
كانت المغنيات في العصر العباسي يجلبن من كل حدب وصوب وكانت اموال المسلمين تنثر عليهن بأفراط شديد . يكفي ان تقوم مطربة بأحياء حفلة غنائية ترضي مزاج الخليفة حتى يأمر لها بمئة الف درهم . وقد بلغ اهتمام الخلفاء بالطرب حدا جعل هارون الرشيد يأمر مغني القصر ابراهيم الموصلي ان يختار له مئة من الأصوات الملائمة والموجودة حاليا في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني .
لقد اتصفت حياة الخلفاء ومن لف لفهم بالبذخ والترف الصارخ , فكان على الشعب الكادح ان يتصبب عرقا ويتجرع من غصص الحياة ما يطاق وما لا يطاق ليتهئ لهؤلاء الحكام اسباب النعيم .
يروي المؤرخ ابن طيفون انه دعي الى قصر الخلافة لحضور حفلة زفاف الخليفة المأمون على عروسته بوران , فبعد الأنتهاء من العشاء الذي كان يتكون من ثلاثمئة لونا من الطعام , قدم الى الضيوف في اواني من الذهب والفضة , وبعدما قام الخليفة واجلس عروسته على حصير منسوج من الذهب ومكلل بأبهى صنوف الجواهر , قدم اليها الف ياقوتة بعد ان اوقد لها شموع العنبر , بعد ذلك بدأ المأمون ينثر مسقول البندق على رؤوس المحتفلين . كانت كل بندقة تحوي على رقاق كتب عليه اسم قرية او جارية او فرس , فالضيف الذي يحظى بواحدة منها يذهب الى الوكيل ليتسلم حصته , فأن كان من نصيبه قرية , غدا حاملها تلك الليلة صاحب ضيعة بما فيها من الكائنات الحية وممتلكات عقار وبساتين ثمر .
انني اتسائل , الم يكن تحقيق العدالة الأجتماعية في مقدمة الأهداف لظهور الأسلام ؟ ... فأذا كان الأمر كذلك , فبأي تبرير يتغافل حكام المسلمين من تطبيق هذا الهدف ؟؟
ولعل هذه الممارسات وما رافقها من اعتصار الشعب هو السبب في كثرة الثورات على العباسيين , وايضا لعله السبب على اقبال بعض الناس للأيمان بالمهدي المنتظر يدعون الله ان يظهره ليخلصهم من بلواهم وينشر العدل بينهم .
لقد انتشر في المجتمع العباسي مظاهر التألق والتأنق في الأزياء والزيارات ومراسيم القبول واداب المائدة خاصة في الطبقات الأرستقراطية الناشئة . كما سرى بين النساء الحرائر شغف التهادي بالعطور النادرة كعطر النرجس والياسمين والمسك والكافور , يعجن بطيب الأريج و يتبخترن بعبقها الزكي و يتمسحن بدهن الزعفران من المفرق الىالقدم , بينما اقتصر شغف العوائل في تزيين بيوتهن بالورد والرياحين التي كانت تملئ اجوائها بشذا عطرها الفواح ,فكانت احلى دلالة لمعاني الود والوداد مثلما كانت باعثا لألهام الشعراء بمشاعر الخصب و الخيال . وعلى اثر ذلك كثرت حقول الورد في ضواحي بغداد و في كل مكان , وفي هذا السياق يقول ابن الجهم
لم يضحك الورد الا حين اعجبه حسن الرياض وصوت الطائر الغرد
بدا فأبدت لنا الدنيا محاسنها وراحت الراح في اثوابها الجدد
قامت بجنته ريح معطرة تشفي القلوب من الهم والكمد .
اما مقاييس الجمال في عين المرأة العباسية فكانت كلأتي : الأنف كالسيف والعين كعين الغزال والعنق كابريق فضة والساق كالجمار والشعر كالعنقود
لقد شاعت في بغداد قولة السوء في الخليفة الأمين بعد ان اكتظ قصره بالغلمان , ودرءا للسمعة ارسلت اليه امه زبيده بعشرة من الجواري بعد ان البستهن ثياب الغلمان لتصرف ابنها عن سلوكه المنحرف , وبذلك ظهر مصطلح الغلاميات , لعل ذلك هو السر في ان ابا نؤاس كان كثيرا ما يستعمل ضمير المذكر في شعر غزل البنات .
كذلك كان الأمين مغرما بالخمرة , حيث كان لاسبيل له الى احتسائها الا متتابعا , حتى اذا نام واستيقظ في السحر طلب الى نديمه ابي نؤاس ان ينشطه ببعض الأبيات فيقول :
نبه نديمك قد نعس – يسقيك كأسا في الغلس
صرفا كأن شعاعها في كف شاربها قبس
تذوا الفتى وكأنما بلسانه منها خرس
يدعى فيرفع رأسه فأذا استقل به نكس
فيهش ( امير المؤمنين ) ويدعوا بالشراب ليصطحب به لليوم التالي وينعم بنشوته , غير مبالي لحرمة دين ولا لوقار خلافة .
لقد حطم سلوك بعض خلفاء بني العباس الحاجز النفسي للأمة الأسلامية عن طريق نشر المفاسد التي زخرت بها قصورهم الى درجة كان اهالي بغداد يصفونها بالحانات الليلية .
اني اتسائل مستاء , اي اسلام هذا الذي لا يطيب لخلفائه السهر الا مع السكارى والمنحرفين ولا يغمض لهم جفن الا على طبول الغلمان ورقص الجاريات واوتار المغنين ؟ اي اسلام هذا ؟
. وقبل ان اختتم حديثي عن شعر الغزل الماجن لابد لي ان امضي الى ابي نوأس , الذي طغت ثورته على كل دين وعرف وقانون و تحولت في بعض جوانبها الى صياح وعجيج وضجيج , ومن شعره
- انما العيش سماع ومدام وندام فأذا فاتك هذا , فعلى الدنيا السلام -
وله ثنايا غزلية رائعة من قبيل
يا من له في عينه عقرب فكل من مر بها تضرب
ومن له شمس على خده طالعة بالسعد ما تغرب
و عندما شاهد حبيبته تندب جارتها خاطبها قائلا
ياقمرا ابصرت في مأتم يندب شجوا بين اتراب
يبكي فيذرف الدر من نرجس ويلطم الخد بعناب
لا تبكي ميتا حل في قبره ابكي قتيلا لك بالباب
تفتحت المواهب الشعرية عند ابي نوأس وهو لم يزل في السادسة من عمره , كان مليحا صبيحا . يروى ان صبية وضيئة الوجه مرت به فمازحته ساعة ثم رمت اليه بتفاحة معضعضة مداعبة اياه فقال لها على البديهة
- ليس ذاك العض من عيب لها انما ذاك سؤال للقبل –
وقد قيم الجاحظ ادب ابي نؤاس قوله , ما رأيت احدا كان اعلم منه باللغة ولا افصح منه لهجة ولا اكثرمنه حلاوة كما قيم شعره ووصفه بالمسك والعنبر كلما حركته ازداد طيبا
وقد اعتبره النقاد سلطان شعر الغزل , تربع على عرشه عبر العصور دون منازع .
وعندما بدا الرشيد يفتك بالبرامكة , لم يرق له ذلك , فالبرامكة كانوا اصدقائه وبني جنسه ولذا ترك ابو نؤاس بغداد مغتاظا قاصدا الفسطاس في مصر , وحينما حياه واليها الخصيب رد له التحية بهذين البيتين مرتجلا
انت الخصيب وهذه مصر فتدفقا فكلاكما بحر
النيل ينعش ماءه مصرا ونداك ينعش اهله الغر
ورغم الحفاوة البالغة التي تلقاها ابو نؤاس الا انه لم يطق الحياة هناك طويلا فقد اشتد به الحنين الى الوطن , وعجز من كبت اشتياقه , بعد ان ذاب في طيب العراق وهام في خلائق اهله , فكر راجعا الى بغداد , حتى اذا ما وصل حول قصر الخلافة العباسية فيها الى مقصف كبير للطرب .
لقد كثرت في زمانه ظاهرة التخنث عند الرجال , فعندما كانت تسقط عنهم رجولتهم , يلبسون لبس النساء ويتشبهون بهن في الحركات والكلام والتزين كصبغ الشعر ووضع الحناء على الأضافر , وكان بالمقابل من يتشبه من الجواري بالغلمان لفتا للشباب . وعندما شاخ ابو نؤاس تحول الى ناسك زاهد وتاب الى ربه وعلته مظاهر الورع والتقوى وظهرت علامات السجود في جبهته واطال لحيته وحمل التسابيح في يمناه والمصحف في يسراه , مبتهلا الى الله ان يغفر له ذنوبه , وبدأ ينظم الشعر العفيف
كأن ثيابه اطلع ن من ازراره قمرا يزدك وجهه حسنا اذ ما زدته نظرا
لم يقتصر نظم الشعر في العصر العباسي على الغزل المكشوف انما كان هناك الشعر العفيف الذي بقى طاهرا تمده منابع الأدب الرصين عند شعراء نجد وكانوا يسمونه بالحب العذري المتسم بالحشمة والأدب , هذه بعض الأبيات للشاعرة عريب .
ادور في القصر لا ارى احدا , اشكو اليه ولا يكلمني ,
حتى كأني اتيت بمعصية ليس لها توبة تخلصني ,
فمن شفيع لي الى حبيب زارني في الرؤيا وصالحني
حتى اذا الصباح عاد لي عاد الى هجره وقاطعني .-
يتضح للقارى الكريم ان صفحة الحياة التي كانت مثقلة بالفضائح الأخلاقية في المجتمع العباسي كانت تقابلها صفحة اخرى مضيئة بشعر الورع والتقوى ففي الوقت الذي كانت الحانات الليلية تعج بالماجنين والفجار تفوح منها رائحة المعاصي كانت مساجد بغداد عامرة بالعباد يعلوها صراخ الوعاظ في وجه الخلعاء و المنحرفين ان يخافوا الله ويزدجروا , كان الشاعر ابو العتاهية ضمن هؤلاء التقاة الذي يقول
الهي لا تعذبني فأني مقر بالذي قد كان مني
وما لي حيلة الا رجائي لعفوك ان عفوت وحسن ظني ....ويقول ناصحا
احذرالأحمق ان تصحبه انما الأحمق كالثوب العلق
كلما رقعته من جانب زعزعته الريح يوما فأنخرق
واذا عاتبته كي يرعوي زاد شرا وتمادى في الحمق
و في مكارم الأخلاق يقول صالح عبد القدوس
المرء يجمع والزمان يفرق ويظل يرفع والخطوب تمزق
ولأن يعادي عاقلا خير له من ان يكون له صديق احمق
فأربأ بنفسك ان تصادق احمقا ان الصديق على الصديق مصدق
وزن الكلام اذا نطقت فأنما يبدي عقول ذوي العقول المنطق..... كما يقول
احذرمصاحبة اللئيم فأنه يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
يلقاك يحلف انه بك واثق واذا توارى عنك فهو العقرب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
واحفظ لسلنك واحترس من لفظه فالمرء يسلم بلسانه ويعطب
والسر فأكتمه ولا تنطق به ان الزجاجة كسرها لا يشعب
و في رفعة الصداقة والصديق يقول بشار بن برد
- اذا كنت في كل الأمور معاتبا – صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدا او صل اخاك فأنه – مفارق ذنب تارة ومجانبه
اذا انت لم تشرب مرارا على القذى – ظمئت واي الناس تصفوا مشاربه
وفي فضائل الأخلاق يقول ابن الجهم
وعاقبة الصبر الجميل جميلة وافضل اخلاق الرجال التفضل
وللخير اهل يسعدون بفعله وللناس احوال بهم تتنقل
ولله فينا علم غيب وانه يوفق منا من يشاء ويخذل
اما في الشعر الصوفي فقد برز الحلاج لكنه تطرف حتى وصل به الأمر الى ان يدعي ان روح الله حلت في كيانه لذا كان يقول – انا الله - وقد افتى مجلس القضاة للمذاهب الأسلامية في بغداد على قتله . و من نظمه وهو يخاطب جل شأنه
- مزجت روحك في روحي كما – تمزج الخمرة في الماء الزلال
فأذا مسك شي مسني فأذا انت انا في كل حال - وقال
- انا من اهوى ومن اهوى انا – نحن روحان حلت بدنا ,
فأذا ابصرتني ابصرته واذا ابصرته ابصرتنا -
ومن جانب اخر استعر شعر المجوسية لدى بشار الذي رفع رايتها قوله
- الأرض مظلمة والنار مشرقة والنار معبودة مذ كانت النار-
- ابليس افضل من ابيكم ادم فتنبهو يا معشر الفجار
النار عنصره وادم طينه والطين لا يسموسمو النار –
وبتهمة الألحاد امر الخليفة العباسي المنصور ان يقتل رجما
و في شعر التشكي يقول بشار بن برد متوجعا لفقدانه حاسة البصر
خليلي ما بال الدجى ليس يبرح وما بال ضوء الصبح لا يتوضح
اضل الصباح المستنير طريقه ؟ ام الدهر ليل كله ليس يبرح
وفي الحنين للوطن يقول ابن الجهم
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري
اعدن لي الشوق القديم ولم اكن سلوت ولكن زدن جمرا الى جمر
وفي محبة الوطن والذود عنه يقول العرفاني ابن الرومي قصيدته الجليلة مطلعها
ولي وطن اليت الا ابيعه وان لا يرى غيري له الدهر مالكا
وهذانموذج من الشعر الشعبي للشاعر الأمي خبز ارزي الذي كان ينشد قصائده عاليا من مخبزه في البصرة فيتقاطر حوله الشباب لسماع شعره العذب قوله
- خليلي هل ابصرتما او سمعتما بأكرم من مولى تمشى الى عبد ؟
اتى زائرا من غير وعد وقال لي اصونك عن تعليق قلبك بالوعد
فما زال كأس الوصل بيني وبينه يدور بأفلاك السعادة والسعد
فطورا على تقبيل نرجس ناظر وطورا على تعضيض تفاحة الخد -
ويقول بعدما قاده خياله الخصب الى طرفة نفسية تعذر عليه التمييز بين هلال الدجى من هلال البشر - رأيت الهلال ووجه الحبيب فكان هلالين عند النظر
فلم ادري من حيرتي فيهما هلال الدجى من هلال البشر
ولولا التورد في الوجنتين وما راعني من سواد الشعر
لكنت اظن الهلال الحبيب وكنت اظن الحبيب القمر